نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بري وخوجة
......«سري
للغاية», اليوم الثلاثاء 23 سبتمبر 2025 10:14 مساءً
«ها إنني أمضي ولا مصباح عندي
لا دليل لا رفيق في فلاه
إلا نداء من حبيب راودتني مقلتاه».
قال عبد العزيز خوجة.
«ها إنني أمضي ولا يرتاح عمري جمعة ولا يرتاح سبتا أو أحد
وأتوه في عينين من شجن وذكرى وحدي أتوه ولا أحد
كأن من أحببت راودها انتباه غامض إني تعبت من البلد».
أجاب نبيه بري.
في زمن كان يجتمع فيه الأدب بالسياسة. ويزاوج فيه الشعر ومهام الدولة. يطل علينا رجلان شكلا نموذجا فريدا في هذا الضرب من الحال. السعودي عبد العزيز محيي الدين خوجة، الدبلوماسي والوزير والشاعر. واللبناني نبيه بري، رئيس مجلس النواب، السياسي المخضرم الذي لا ينفصل عن حس أدبي متأصل. كلاهما التقيا في بيروت. لا على طاولة المفاوضات بل في فضاء الشعر حيث امتزجت السياسة بالقصيدة والبرلمان بالوزن.
لا يمكن فصل هذه التجربة الأدبية في النصف الثاني من عام 2007 عن سياقها السياسي. يومها كان لبنان منقسما عموديا بين فريقي 14 آذار و8 آذار. كل بامتداداته الإقليمية والدولية التي لا تخلو من تناقض وتضارب في المصالح تحديدا بعد انتهاء حرب تموز 2006 الإسرائيلية، وما رافقها من شغور في رئاسة الجمهورية بانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، وعدم قدرة البرلمان النيابي على انتخاب خلف له. إضافة إلى الشلل الحكومي باستقالة وزراء فريق 8 آذار من حكومة فؤاد السنيورة، وتعطل طاولة الحوار الوطني تحت قبة البرلمان. في هذا الجو السياسي المتشنج اجتمع خوجة بالرئيس نبيه بري مكلفا من الملك عبدالله بن عبد العزيز للبحث عن ثغرة في الانسداد المميت في الأفق حماية للبنان من العواصف الإقليمية القادمة لا محالة.
زيارات عين التينة (مقر رئاسة مجلس النواب اللبناني) يذوب فيها جليد السياسة فما بالك بعواصف الانقسام. يقول خوجة والكلام له «زرت الرئيس بري يوم العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 2007 في زيارة عمل. كنت كما العادة مع الرئيس بري نرطب الحوار السياسي ببعض الشعر. في نهاية اللقاء قال الرئيس بري اجلس قليلا أسمعني آخر قصيدة كتبتها. أجبته بأنني أنجزت قصيدة صباح اليوم بعنوان ضرب من المحال». نهض بري من مقعده قائلا «أريد سماعها».
قرأ خوجة القصيدة والرئيس بري يمشي دورانا حول مكتبه منصتا إليه. ومن المعروف عن بري حبه لرياضة المشي. حتى إنه خصص ساعة للمشي بين السادسة والسابعة مساء كل يوم في الطبقة الأولى من دارته يقابل خلالها من يضع اسمه مسبقا عند الممسكين بفضاء قصر عين التينة، الأمر الذي بات تقليدا متعارفا عليه عند السياسيين والصحافيين والقضاة والضباط وموظفي الإدارات ورجال الأعمال ممن يفوزون بدقائق من «التمشاية» اليومية في حضرة رئيس مجلس النواب اللبناني.
تأثر الرئيس بري بقصيدة عبد العزيز خوجة فتوقف عن المشي قائلا «أثرت شاعريتي دكتور عبد العزيز.. هل أستطيع الحصول على صورة من القصيدة؟».
في مساء ذلك اليوم سلّم مُرسل من الرئيس بري مغلفا أبيض اللون إلى حرس السفير السعودي في مكتبه بحي قريطم البيروتي قبل أن ترجع السفارة إلى مقرها العتيق في شارع بلس بمحاذاة الجامعة الأمريكية، كتبت عليه عبارة «سري للغاية». أدرك خوجة أن ما بداخل المغلف ليس رسالة رسمية. فالطبقة السياسية اللبنانية تعتمد على الرسائل الشفهية للتواصل في ممارسة عمرها من عمر لبنان الكبير. أدرك أن هذا تواصل أراد له الرئيس بري أن يسجله عنده لربما يسجل في التاريخ يوما ما. فتح المغلف فوجد فيه قصيدة لبري بعنوان «ضرب من الانتباه».
يقرأ عبد العزيز خوجة قائلا:
ونزفت من ليلي ومن أرقي
ومن ظني ومن نفسي ومن وجع الجراح
وظننت أن الليل أدركه الصباح
يجيبه نبيه بري:
وعجبت من قلبي يلاعبني يراهق في مساها
فنزعت من عمري انصرافي حين أدركت الصباح بلا هناها
قد فاتني يا قلب أني قد صرفت العمر محروما هواها
القصيدتان ليستا مجرد محاولات شعرية عابرة. بل نصوص أسست لحوار بين رجلين يعرفان أن اللغة هي الوجه الآخر للسياسة. ففي قصيدتيهما نجد تبادلا للصور وتناصّا في العناوين وتناظرا في المفردات، في إشارة إلى أن الشعر ليس نشاطا هامشيا بل جزء من هوياتهم المتعددة.
عبد العزيز خوجة وهو سفير لبلاده في لبنان، لم يترك القلم جانبا. قصيدته «ضرب من المحال» تكشف عن شاعرية متدفقة في قلب ميدان ملتهب. تحمل صورا ليلية حالكة تتخللها ومضات من نور الأمل والرجاء. من يعرف الوزير خوجة يدرك أنه أمام رجل ليست اللغة عنده ترفا. بل وسيلة لتفريغ هواجس الدبلوماسي الذي يعيش في قلب الأزمات كسفير في بلد لا يعرف السكون.
أما نبيه بري الرئيس الأديب فقصيدته «ضرب من الانتباه» تذهب بنا إلى فضاء آخر. تتقاطع المرآة الداخلية مع انعكاسات السياسة اليومية. يكتب بري كشاعر يعرف أن الكلمات مثل القرارات قد تغير مجرى الأشياء. شعره يفيض بالتأمل والحوار مع الذات. بنبرة أسرفت في حب السياسة على حساب الحياة. وبري، رأس السلطة التشريعية اللبنانية مارس دوره السياسي من موقع العارف بأهمية الكلمة.
في ديوان الحياة العامة غالبا ما يختفي الأدب خلف صخب المسؤوليات. أراد الرجلان تخطيها. خوجة وبري يلتقيان في فضاء اللغة. هي قدرات لغوية تتجاوز حدود المنصب. كلاهما يمتلك مخزونا بلاغيا. كلاهما جسد فكرة أن السياسة ليست فقط حسابات ومواقف، بل أيضا فن إصغاء وبلاغة خطاب. في قصيدتين ولدتا من رحم لقاء دبلوماسي عام 2007. برهنا أن السياسة لا تختزل في المناصب. وأن قدرة البلاغة على التأثير لا تقل شأنا عن قدرة القرار.
0 تعليق