دور الرياض وواشنطن في هندسة التهدئة ومستقبل غزة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
دور الرياض وواشنطن في هندسة التهدئة ومستقبل غزة, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 03:46 صباحاً


تدخل المرحلة الثانية من اتفاق غزة نطاقا استراتيجيا يتجاوز الحسابات الإنسانية المباشرة، إذ تمثل لحظة يعاد فيها رسم ميزان القوى وتحديد حدود النفوذ الدولي والإقليمي داخل ملف هو الأكثر قابلية لإعادة هندسة التوازنات في الشرق الأوسط، ويأتي هذا التغيير في ظل إدراك متنام لدى الفاعلين الكبار بأن استمرار الوضع على ما هو عليه لم يعد احتمالا قابلا للإدارة، وأن المرحلة الثانية ليست مجرد امتداد للهدنة بل مرحلة إعادة تشكيل للمعادلة التي حكمت العلاقة بين غزة وإسرائيل والمجتمع الدولي لعقدين كاملين.

ومن منظور استراتيجي يتعامل صناع القرار في واشنطن مع هذه المرحلة بوصفها امتحانا لصدقية القوة الأمريكية في الشرق الأوسط وقدرتها على التحكم بسلوك حليفها التقليدي إسرائيل التي باتت تنتهج سياسة توسع تكتيكي يكاد يتجاوز قدرة الولايات المتحدة على ضبط إيقاعه، إذ تحاول إسرائيل عبر سلسلة مناورات سياسية وميدانية تفريغ المرحلة الثانية من مضمونها عبر إعادة تعريف مفهوم إعادة الانتشار وتقييد دخول المساعدات وربط تنفيذ البنود بشروط أمنية جديدة، وهو سلوك يعكس رغبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في منع أي عودة لمنظومة حكم فلسطيني مترابطة أو لبيئة مدنية مستقرة يمكن أن تمنح الفلسطينيين موقعا تفاوضيا أقوى في المستقبل.

وتدرك الولايات المتحدة أن استمرار هذا النهج الإسرائيلي يهدد موقعها الاستراتيجي في الإقليم، فتوازن الردع الأمريكي لم يعد يقاس فقط بالقدرة العسكرية بل بالقدرة على فرض قرارات دبلوماسية على حلفاء باتوا يرون في البيئة الإقليمية فرصا جديدة للمناورة. وتعلم واشنطن أن فشل المرحلة الثانية سيؤدي إلى تراجع نفوذها أمام القوى الصاعدة في المنطقة، وسيضعف قدرتها على منع تشكل خطوط اشتباك إقليمية جديدة قد تتداخل مع مصالحها في البحر الأحمر والشرق المتوسط، ولذلك تتحرك الإدارة الأمريكية نحو استخدام أدوات الضغط غير المعلنة بما يشمل ضبط المساعدات العسكرية وتحديد شروط التنسيق العملياتي بهدف دفع إسرائيل إلى الالتزام بتسلسل البنود بما يمهد لبيئة يمكن إدارتها لاحقا ضمن رؤية سياسية أوسع.

أما على المستوى السعودي فإن الدور الذي تؤديه المملكة بقيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لا يقوم على منطق الوساطة التقليدية بل على بناء إطار استراتيجي يعيد تعريف دور الإقليم في صياغة الحل للفلسطينيين وليس مجرد التفاعل مع حلول تأتي من الخارج، إذ تنطلق الرياض من قناعة بأن استقرار غزة ليس ملفا إنسانيا منفصلا بل حجر أساس في هيكل الأمن الإقليمي، وأن فشل المرحلة الثانية سيعيد إنتاج دورات التصعيد ويقوض كل مسار تنموي واقتصادي تعمل عليه المنطقة، ولذلك تسعى المملكة إلى تأسيس معادلة ثلاثية تقوم على خلق التزام دولي ملزم وضمانات تنفيذية واضحة ومسار سياسي لا يسمح لإسرائيل بإعادة إنتاج الوضع السابق.

وتعتمد السعودية في هذا الإطار على أدوات قوة متعددة تشمل قدرتها على حشد الدعم العربي وتكوين كتلة ضغط داخل المنظمات الدولية والتواصل المباشر مع القوى الكبرى، إضافة إلى موقعها كقوة اقتصادية تمنحها قدرة فريدة على تحريك مسارات إعادة الإعمار وربطها بما يسمى بالاستقرار المنتج، أي الاستقرار الذي ينتج بيئة اقتصادية واجتماعية جديدة تمنع العودة إلى الفوضى، وقد نجحت الرياض في تحويل الاتفاق من إجراء إنساني مؤقت إلى مشروع إقليمي ذي امتداد استراتيجي يعيد ترتيب أولويات الأمن في المنطقة.

تبرز الأهمية الاستراتيجية للمرحلة الثانية في كونها النقطة التي تهدد بها جدوى المشروع الإسرائيلي نفسه، فنجاحها سيؤدي إلى عودة السكان إلى مناطق واسعة في غزة وفتح ممرات مستقرة وتفعيل آليات رقابة دولية، وهو ما يحد من هامش السيطرة الإسرائيلية، ويخلق واقعا ميدانيا جديدا تكون فيه إسرائيل مضطرة للتعامل مع منظومة مدنية أكثر تماسكا، وهذا ما يفسر التعنت الإسرائيلي ومحاولتها تعطيل هذه المرحلة عبر رفع سقف المطالب الأمنية وتغيير الخرائط الميدانية وتضييق المجال الإنساني، بهدف إضعاف قدرة المجتمع الدولي على بناء نموذج إداري جديد في غزة.

ولهذا نرى أن المرحلة الثانية ليست معركة حول المعابر أو انتشار القوات بل حول من يمتلك حق صياغة مستقبل غزة هل هو الطرف الإسرائيلي عبر فرض واقع جديد بالقوة أم الأطراف الدولية والإقليمية التي ترى في التهدئة المستدامة مدخلا لإعادة بناء الترتيبات الإقليمية من جديد، ولذلك سوف يتحدد نجاح هذه المرحلة بقدرة الولايات المتحدة على كبح التعنت الإسرائيلي وقدرة السعودية على تحويل الإجماع الدولي إلى ضغط منظم ينقل الاتفاق من مستوى التعهدات إلى مستوى الإلزام، وهو ما سيعيد تشكيل البيئة السياسية ويفتح الباب أمام إعادة هندسة الوضع الفلسطيني بطريقة تمنح الشعب الفلسطيني استقرارا قابلا للاستمرار وتمنع انزلاق الإقليم إلى مربع الصراع المفتوح.

في النهاية تكمن القيمة الاستراتيجية للمرحلة الثانية في أنها قد تكون أول لحظة تتقدم فيها الإرادة الدولية والإقليمية مجتمعة على منطق القوة الأحادية، وإذا تحقق ذلك ستصبح هذه المرحلة بوابة لإعادة صياغة التوازنات في غزة والمنطقة بأكملها، أما إذا فشلت فسيعاد إنتاج نمط الصراع الطويل الذي يستهلك قدرات الشعوب ويقوض إمكانات الاستقرار الإقليمي، وهو ما يفسر الحضور القوي للدورين الأمريكي والسعودي، لأنهما يدركان أن هذه المرحلة ليست خطوة تنفيذية بل مفصل استراتيجي سيحدد شكل الشرق الأوسط في السنوات المقبلة.

alatif1969@

أخبار ذات صلة

0 تعليق