نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
استقرار القاعدة القانونية في مواجهة تحولات الاجتهاد القضائي, اليوم الاثنين 21 يوليو 2025 07:32 صباحاً
ليست القاعدة القانونية مجرد صياغة لفظية؛ إنها جسر الثقة بين المجتمع ومؤسساته القضائية. وكلما ازدادت هذه القاعدة استقرارا، ازدادت قدرة الفرد على توقع نتائج تصرفاته، وازدهرت بذلك الحياة القانونية والاقتصادية على السواء. غير أن الاجتهاد القضائي – بما فيه من طاقة تفسير وتأويل – قد يُحدث رجة في استقرار تلك القاعدة، خاصة إذا جاء العدول دون بيان، أو التحول دون تعليل.
إن الاجتهاد القضائي ليس خصوصية نظام دون آخر، بل هو ظاهرة كونية تمارسها أرقى المحاكم في العالم، من المحكمة العليا الأمريكية، إلى محكمة النقض الفرنسية، إلى الدوائر المدنية في مصر، ومحاكم التمييز في دول الخليج. غير أن المسألة ليست في «حق الاجتهاد»، بل في «حكمة الانتقال»، وفي ما إذا كانت التحولات التي يجريها القضاء تُبقي على استقرار التوقعات، أم تهدمها.
في النظم الأنجلوساكسونية، مثل إنجلترا والولايات المتحدة، تُعد السوابق القضائية مصدرا ملزما للقضاة. والعدول عن تلك السوابق ليس أمرا عرضيا، بل يتطلب معيارا صارما يُعرف بـ«مبدأ العدول القضائي المبرر»، حيث لا تُلغى السابقة إلا بتعليل واضح وصريح. ورغم هذه الضمانات، شهد القضاء الأمريكي عدولا كثيرا أحدث زلزلة قانونية واجتماعية، بسبب ما في هذا العدول من تحول جوهري.
أما في النظم المختلطة، كالنظام الفرنسي والمصري، فالمبادئ القضائية لا تُعتبر مصادر ملزمة بشكل صريح، لكنها تكتسب قوة شبه إلزامية من خلال تكرارها واستقرارها في أحكام المحاكم العليا. ومع ذلك، حين يصدر عدول دون تعميم أو تفسير، ترتبك المحاكم الدنيا، ويتعطل الاجتهاد الأدنى، وتختل مرجعية المبدأ.
وفي الأنظمة النامية، تتفاقم المشكلة أكثر؛ فالعدول القضائي قد يقع صامتا، دون إعلان أو شرح، بل أحيانا دون إدراك بأنه عدول. وحين يحدث هذا، يُربك ليس فقط القاضي والمحامي، بل المتقاضي العادي والمستثمر، ويُزرع الشك في يقينية النصوص نفسها، فيتآكل الأمن القانوني من الداخل.
وفي إشارة إلى النظام القضائي السعودي، لا بد من التأكيد على أن مرجعية القضاء الأولى هي النص الشرعي و النظامي، لا السابقة الملزمة، إلا أن الواقع العملي أظهر – فيما أظن - أن هناك توازنا بين الاجتهاد القضائي وعدم إضراب القاعدة القانونية، وهذا تحول يعزز نضج القضاء لدينا.
وهكذا، فإن هذا المقال لا يُوجه إلى نظام قضائي بعينه، بل يرفع صوته إلى فقه القضاء في العالم كله: أن يُحسن مواءمة الاجتهاد مع استقرار القاعدة، وأن لا يترك العدول القضائي بلا بيان، ولا التحول بلا تفسير، فإن القاعدة إذا اضطربت، اضطربت معها الثقة، واهتز معها النظام، ولو أحسن القصد.
0 تعليق