نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الصراع بين المدينة العالمية والثقافة المحلية, اليوم الأحد 10 أغسطس 2025 06:01 صباحاً
سألني أحد الباحثين كيف يمكن لمدننا أن تتحول إلى مدن عالمية؟ فقلت له إذا أصبحت أطباق الجريش والقرصان متداولة عالميا مثل البيتزا والهمبرجر. نعم، هذه ليست مزحة فالبعض يعتقد أن المدينة العالمية هي مدينة ضخمة يتركز بها السكان والاستثمارات الاقتصادية؛ وهو تصور غير دقيق فالمدن العالمية هي مراكز لإنتاج وتصدير الثقافة والابتكار، وبيئات استطاعت أن تكون جاذبة للمجتمعات كافة. تتميز هذه المدن بانفتاحها وقدرتها على توليد الثقافة وتتمتع بقوانين وتشريعات مرنة تجذب رواد الأعمال والمستثمرين. المدن العالمية تعد بمثابة مراكز قيادية تتخطى الحدود المحلية ولا تخضع للنطاق المكاني ولها توجهات ليبرالية وتشريعات تحفز الاستقرار بها. هذه المدن مؤثرة عالميا على الصعيد الثقافي، والفني، والسياسي، وتتنافس بشكل دائم على استضافة الفعاليات العالمية. في المدن العالمية تختلط الثقافات وتصبح ثقافة المدينة هي السائدة، حيث تتعايش المجتمعات دون تعصب فكري. وغني عن البيان فمثل هذه المدن يجب أن تتمتع ببنية حضرية متقدمة، وقوانين متسامحة، وخدمات نوعية ومراكز إنتاج الثقافة والفنون، وهي بذلك تستهدف رأس المال الفكري.
أرى أن المشكلة ليست في مدى قدرتنا على التحول نحو المدن العالمية؛ بل في الازدواجية بين العالمية والحفاظ على الهوية المحلية. أعكف حاليا على إعداد مشروع بحثي حول آليه الجمع بين مكتسبات المدينة العالمية والحفاظ على الثقافة المحلية في آن واحد. فعلى الرغم أن التحول نحو المدن العالمية أصبح مطلبا للعديد من صانعي السياسات الحضرية لكونه يؤدي إلى زيادة إيرادات المدن وتعزيز جاذبيتها؛ إلا أن هذا التحول يمكن أن يقود إلى طمس الثقافة المحلية وانحسار رموز الثقافة الوطنية لصالح الثقافة العالمية. المدن بشكل عام ترتبط بهوية محددة ذات بعد تاريخي وجغرافي؛ فالمكان والزمان عنصران حاسمان في تشكيل الهوية.
كما تتأثر هوية المدن بالقيم الدينية، والقصص والأحداث السياسية، واللغة أو اللهجة المحلية. وهكذا فالانتساب لمدينة ما يعني استحضار الدين واللغة والثقافة والتاريخ والارتباط الوجداني بالحيز المكاني.
إن التحول نحو المدن العالمية يصاحبه إشكالات عديدة لا بد من بحثها، فعلى الرغم من التنوع الثقافي في هذه المدن؛ إلا أن السائد هو ثقافة العولمة التي تطغى على التقاليد المحلية الفريدة وتساهم في تآكل التراث المحلي.
المدن العالمية تسعى لتحقيق إيرادات اقتصادية وقد يكون ذلك على حساب القيم الثقافية المحلية، حيث تتحول العمارة والفنون والثقافة المحلية وحتى العناصر التراثية في المدينة إلى كيانات تجارية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسليع التراث دون إدراك القيم الثقافية وارتباطها بالمجتمع المحلي.
تحاول المدن العالمية تعزيز الاتصالية مع الاقتصاد العالمي وجذب الشركات متعددة الجنسيات ومنح الفرص للكفاءات العالمية، وهذه العوامل تؤدي إلى فقدان الهوية وتؤثر بلا شك على عادات المجتمع المحلي وأنماط الحياة وفرص العمل. أما قضية التهميش الاجتماعي فاتساع الهجرة يؤدي إلى خلق قيم ثقافية متنوعة وصراعات طبقية بين النخب الاجتماعية والمجتمع المحلي تقود إلى تهميش بعض الفئات الاجتماعية المستضعفة والفقراء.
ختاما، أرى أن التحول نحو العالمية يمكن أن يحفز المجتمع على الحراك واكتساب خبرات جديدة، ويساعد على خلق المزيد من الفرص للتنمية الاجتماعية؛ ولكن لا بد من استيعاب الرؤى المتباينة وفهم تحديات هذا التحول وصولا إلى نموذج رائد يؤكد على التعايش الثقافي دون طمس الهوية المحلية.
0 تعليق