الغواصات الأسترالية : من صفقة دفاعية إلى منعطف سيادي

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تكشف بعض الكتب السياسية لحظات مفصلية تتجاوز الحدث ذاته لتضيء طريقة تشكّل السلطة ومسارات القرار داخل الدولة. في كتابه «نوكِد: كارثة الغواصات التي أغرقت سيادة أستراليا»، يتناول الصحفي الاستقصائي أندرو فاولر صفقة الغواصات الأسترالية بوصفها مدخلاً لفهم آليات صنع القرار الدفاعي، والعلاقات المعقّدة بين السياسة والأمن والتحالفات الدولية، مقدّماً قراءة معمّقة لحدث ترك أثراً واسعاً في المشهد السياسي الأسترالي المعاصر. 
نال كتاب «نوكِد: كارثة الغواصات التي أغرقت سيادة أستراليا» للصحفي الأسترالي أندرو فاولر جائزة ووكلي للكتاب لعام 2024، كما أُدرج ضمن القائمة المختصرة لجائزة الكتاب السياسي الأسترالي لعام 2025، وهو ما رسّخ مكانته بوصفه عملاً بارزاً في الصحافة الاستقصائية والكتابة السياسية. وقد عزّز هذا التقدير حضوره في النقاش العام، ليغدو مرجعاً نقدياً لفهم واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وحساسية في السياسة الأسترالية المعاصرة.
يحمل عنوان الكتاب «Nuked» دلالة مكثّفة تتجاوز معناها الحرفي المرتبط بالنووي. فالكلمة، في الاستخدام السياسي والإعلامي الإنجليزي، تشير إلى فعل عنيف مجازي، يُفهم بوصفه تفجيراً سياسياً أو تدميراً عميقاً لمشروع أو فكرة. في هذا السياق، يستخدم فاولر المصطلح ليعبّر عن نسف مسار سيادي كامل، وعن صدمة أصابت القرار الوطني الأسترالي عندما أُعيد توجيه واحدة من أكبر صفقات الدفاع في تاريخ البلاد نحو خيار نووي غيّر موازين الاعتماد والتحالف.
يروي فاولر قصة برنامج الغواصات الأسترالي الذي صُمّم ليكون حجر أساس في تحديث القدرات الدفاعية للبلاد، ثم تحوّل إلى قضية سياسية شديدة الحساسية. بدأت الحكاية بمناقصة دولية ضخمة فازت بها فرنسا بعد سنوات من التفاوض والتخطيط، وسط وعود بنقل المعرفة الصناعية وتعزيز القدرات المحلية. لاحقاً تغيّر مسار القرار داخل الدوائر العليا للحكومة الأسترالية، حيث تشــــكّلت شـــــبكة ضيّقــــة من الفاعليـــــــــــن الســـــياسيين والأمنييـــــن عملت على إعادة توجيه الصفقة نحو خيار الغواصات النووية الأمريكية.
يعتمـد الكتاب على تحقيق واسع شمل مقابلات مباشرة مع شخصيات محورية في مسار الصفقة، إضافة إلى مصادر سياسية ودبلوماسية في باريس ولندن وواشنطن وكانبيرا. ومن خلال هذا الامتداد، يرسم فاولر صورة دقيقة لكيفية انتقال القرار من كونه مشروعاً دفاعياً وطنياً إلى جزء من معادلة تحالفية أوسع، تتقدّم فيها اعتبارات النفوذ الاستراتيجي على أولويات الصناعة المحلية والاستقلال التقني.
تتجلّى آثار هذا التحوّل في مستويات متعددة، دبلوماسياً عبر التصدّع العميـــــــــــق في العلاقـــــــــــات الأسترالية–الفرنسية، وصناعياً عبر الارتباك الذي أصاب أحواض بناء السفن في أديلايـــد حيث تعطّلــت الخطط وتبدّدت ســـنوات من التحضير. أما سياسياً، فيكشف الكتاب عن ثقافة قرار تُدار في نطاق ضيّق، وتُقدَّم إلى الرأي العام بوصفها خياراً مصيرياً، مع حضور محدود للنقاش البرلماني والمساءلة العامة.
يركّز فاولر على البعد السيادي للصفقة، ويقدّم قراءة ترى في الغواصات النووية رمزاً لاعتماد طويل الأمد على منظومات تقنية واستراتيجية خارجيـــــة. فالتكنولوجيــــا المعقّـــدة، والجداول الزمنية الممتدة، والارتباط الوثيق بالسياسات الدفاعية الأمريكية، جميعها عناصر أعادت تشكيل موقع أستراليا داخل تحالفاتها، ومنحت القوى الكبرى دوراً أعمق في تحديد ملامح أمنها المستقبلي.
يتجاوز الكتاب حدود الحالة الأسترالية ليقدّم نموذجاً قابلاً للقراءة في سياقات دولية أخرى، حيث تتشابك وعود الأمن مع حسابات السيادة، وحيث تُصاغ القرارات العسكرية الكبرى في مساحات بعيدة عن النقاش العام. بهذا المعنى، يتحوّل «نوكِد» إلى دراسة سياسية عن السلطة في عصر التحالفات، وعن الكلفة التي تتحمّلها الدول المتوسطة حين يُعاد تعريف استقلالها من داخلها.
كتاب «نوكِد: كارثة الغواصات التي أغرقت سيادة أستراليا» يفتح نقاشاً واسعاً حول العلاقة بين الأمن والسيادة، وحول دور الشفافية في حماية القرار الوطني، وحول معنى الاستقلال في عالم تُدار فيه القوة عبر الشبكات والتحالفات بقدر ما تُدار عبر الجيوش.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق