الأمهات الثلاثة... وغياب واحد لا يُحتمل

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الأمهات الثلاثة... وغياب واحد لا يُحتمل, اليوم الثلاثاء 23 ديسمبر 2025 12:44 مساءً

في حياة كل إنسان محطات تصنع ملامحه، وأشخاص يتركون بصماتهم في قلبه قبل عقله. بالنسبة لي، لم تكن الأم وحدها هي من شكلت طفولتي، بل كان القدر كريما حين منحني ثلاثة أمهات في آن واحد: أمي، وجدتي، وخالتي.

ثلاث نساء حملنني على أكتافهن، غمرنني بحنانهن، وعلمنني أن الحب ليس كلمة تقال، بل فعل يمارس كل يوم.

واليوم ورغم مرور أربع سنوات على رحيل خالتي، أجد نفسي عاجزا عن وصف ألم الفقد، رغم أنني متخصص في الاتصال الإنساني، ذلك العلم الذي يفترض أن يمنحني أدوات التعبير عن المشاعر، لكن أمام هذا الغياب، تتعطل اللغة، وتنهار البلاغة، ويصبح القلب هو الصحفي الوحيد القادر على صياغة الكلمات.

خالتي لم تكن مجرد قريبة، بل كانت امتدادا لروح أمي وجدتي بعد رحيلهما، وجدت نفسي يتيما مرتين، لكن وجودها كان سدا منيعا أمام الفراغ. كانت تعرف كيف تملأ البيت بالضحكة، وكيف تحول الحزن إلى دعاء، وكيف تعيد للطفل بداخلي شعور الأمان، لم تكن تعتبرني ابن اخت بل ابنا لها وامتدادا لأختها الراحلة أمي.

لقد غمرتني بحب لا يقاس، حب يشبه المطر حين يسقي أرضا عطشى، حب يزرع في القلب يقينا أن العائلة ليست مجرد روابط دم، بل هي شبكة من الأرواح المتصلة التي لا تنقطع حتى بالموت.

أربع سنوات مرت منذ أن غادرت خالتي هذا العالم، لكنني لم أشعر يوما أنها رحلت حقا، جسدها غاب نعم، لكن روحها ما زالت ترافقني في كل مكان. أراها في تفاصيل يومي: في دعاء الصباح، في رائحة الطعام الذي كانت تعده بحب، في النصائح التي كانت تهمس بها وكأنها تعرف أنني سأحتاجها يوما ما.

كدارس للاتصال الإنساني، يفترض أن أكون قادرا على صياغة مشاعري بدقة، لكنني أمام فقد خالتي أجد نفسي عاجزا. اللغة هنا تصبح قاصرة، الكلمات تتحول إلى مجرد محاولات باهتة، بينما الألم يفيض بلا حدود. كيف يمكن أن أصف امرأة كانت أما ثالثة لي؟ كيف يمكن أن أختزل سنوات من الحنان في جملة أو فقرة؟

الصحافة، في جوهرها، هي نقل الحقيقة. والحقيقة هنا أنني فقدت جزءا من نفسي برحيلها. لكن الصحافة أيضا هي محاولة لإيجاد معنى وسط الفوضى، ولعل هذا المقال هو محاولتي لإيجاد معنى في غيابها، أن أكتب عنها كي أبقيها حية في السطور، كما هي حية في قلبي.

خالتي العزيزة، أكتب إليك اليوم بعد أربع سنوات من رحيلك، لا لأذكرك بما كنت، فأنت تعرفين، بل لأذكر نفسي أنني ما زلت ابنك، وما زلت أعيش على إرثك من الحب. أكتب لأقول إنني لم أنسك، ولن أنساك، لأنك لم تكوني مجرد خالة، بل كنت أما ثالثة، وكنت سندا حين انهار السند، وكنت نورا حين أظلمت الحياة.

أكتب لأقول إنني أشعر بك في كل مكان، في كل لحظة، في كل نفس. وأكتب لأعترف أنني مهما بلغت من العلم والخبرة في الاتصال الإنساني، فإنني أمام حبك وعطائك أظل طفلا عاجزا عن التعبير، طفلا يكتفي بالبكاء حين يشتاق، وبالكتابة حين يعجز عن الكلام.

في ذكرى رحيل خالتي، أجد أن الكتابة ليست مجرد فعل صحفي، بل هي طقس حب، محاولة لإبقاء من نحبهم أحياء في الذاكرة. أربع سنوات مضت، لكن حضورها لم يتراجع، بل يزداد قوة كلما استدعيت ذكرياتها.

لقد علمتني أن الأمومة ليست حكرا على الأم البيولوجية، بل هي فعل إنساني يمكن أن تمارسه أي امرأة تحب بصدق. وأنا كنت محظوظا أن أعيش بين ثلاثة أمهات، وأن أتعلم من كل واحدة منهن درسا مختلفا في الحياة.

رحيل خالتي كان قاسيا، لكنه جعلني أكثر وعيا بقيمة الحب، وأكثر إدراكا أن الروح لا تموت. واليوم وأنا أكتب عنها، أشعر أنني أعيدها إلى الحياة، ولو عبر الكلمات، وأعيد لنفسي القدرة على مواجهة الفقد بالحب، لا بالحزن فقط.
حين أنظر اليوم إلى ابنتي ميرال ذات الأعوام الخمسة، وإلى محمد الذي لم يتجاوز الثالثة، أجد أنني لا أربيهما وحدي.

إنه إرث أمي وجدتي وخالتي، ومعه حكمة أبي، يسكنني ويظهر في كل كلمة أقولها لهما، وفي كل حضن أقدمه، وفي كل قصة أحكيها قبل النوم. لقد علمتني أمهاتي الثلاثة أن الحنان هو أساس التربية، وأن الحب هو اللغة الأولى التي يفهمها الأطفال، فيما علمني أبي أن الصبر والعدل هما جناحا الأبوة.

وهكذا، حين أضم ميرال إلى صدري أو أرافق محمد في خطواته الأولى، أشعر أنني أعيد إنتاج ذلك المزيج الفريد من الحنان والحكمة والصبر الذي تلقيته منهم. إنهم حاضرون معي في كل لحظة، يربون أحفادهم من خلالي،

ويمنحونني القوة لأكون أبا قادرا على أن يزرع في قلب أطفاله الطمأنينة نفسها التي زرعوها في قلبي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق