تأثير الصدمات الراهنة على الوعي الجمعي العربي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تأثير الصدمات الراهنة على الوعي الجمعي العربي, اليوم الاثنين 22 سبتمبر 2025 04:09 صباحاً

ليست الصدمات الكبرى مجرد وقائع تسجل في كتب التاريخ، بل هي ارتجاجات عميقة في الذاكرة والوعي، تعيد تشكيل صورة الإنسان عن نفسه وعن الآخرين. حين تهبط القنابل على مدينة، أو تستهدف عاصمة بدعوى تصفية الحسابات، لا يقتصر الأثر على المباني المهدمة ولا الأرواح المفقودة، بل يتجاوز ذلك ليزرع ندوبا نفسية في وجدان الشعوب، ندوبا قد تظل فاعلة لعقود طويلة.

علم النفس يعرف «الصدمة الجمعية» بأنها تجربة صادمة يعيشها مجتمع بأكمله، بحيث يتشارك الأفراد الإحساس بالفقد والخطر والخذلان. هي ليست ألم الفرد وحده، بل وجع الذاكرة المشتركة، حيث تتداخل صور الموت والدمار مع الشعور بالظلم والعجز. في هذه اللحظات، يولد وعي جديد يصعب محوه: وعي يصوغ علاقة الناس بهويتهم، بتاريخهم، وحتى بأحلامهم المستقبلية.

التاريخ مليء بشواهد تظهر كيف غيرت الصدمات الكبرى مسار الأمم: أوروبا التي خرجت من الحربين العالميتين بأدب سوداوي وفلسفات وجودية مشبعة بالأسئلة عن معنى الحياة، اليابان التي أعادت بناء نفسها بعد هيروشيما وناغازاكي على رؤية جماعية تمجد السلم والتفوق التقني، الفلسطينيون الذين حملت نكبتهم هوية كاملة للأجيال اللاحقة، حيث صار «اللجوء» و«المقاومة» مكونين أساسيين للوعي الجمعي. واليوم نعيش في منطقتنا ارتجاجا مشابها. الغارات التي تنفذ على غزة، والضربات التي طالت قطر، ليست مجرد أحداث عابرة، بل حلقات جديدة تضاف إلى سجل من الصدمات الجمعية العربية. مشهد الأب وهو يبحث بين الأنقاض عن أطفاله، أو مشهد الدخان المتصاعد من مدينة كانت تنبض بالحياة، يتجاوز حدود المكان ليطبع في ذاكرة كل عربي ومسلم. هذه الصور لا تحتاج جواز سفر، فهي تنتقل عبر الشاشات لتصنع شعورا مشتركا بالخذلان والغضب والألم.

لكن الجانب النفسي الأعمق هو كيف يعيد هذا كله تشكيل وعينا. الصدمة الجمعية قد تنتج أحد مسارين: إما الانكسار والاستسلام، حيث يغدو الخوف هو الصوت الأعلى، أو التحول إلى طاقة مقاومة، حيث يتحول الألم إلى معنى، والمعاناة إلى حافز للتماسك والهوية المشتركة. الشعوب التي تدرك أبعاد صدماتها تستطيع أن تحولها إلى وقود لبناء مستقبل أكثر صلابة، بينما الشعوب التي تهملها تخاطر بأن تظل حبيسة الندوب.

في النهاية، لا تقاس خطورة الحروب والكوارث بعدد الضحايا ولا بحجم الدمار فحسب، بل بمدى ما تتركه في النفس الجماعية من كسور أو مناعة. ولعل السؤال الأعمق الذي ينبغي أن نطرحه اليوم: كيف نحول صدماتنا الجمعية من ندوب دامية إلى بصمات وعي، من ذاكرة مثقلة إلى ذاكرة فاعلة؟ فالصدمة، مهما كانت موجعة، يمكن أن تكون نقطة بداية إذا أديرت بوعي ومسؤولية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق